كيف نشأت العملات؟ ولماذا لا نقوم بطباعة الأموال ونصبح جميعًا أثرياء؟


دعونا سويًّا نتعرف على التسلسل التاريخي لنشأة النقود، ونذكر لكم بعض الأحداث التاريخية المهمة التي غيرت مسار الحياة التجارية العالمية ووضعت بصمتها في النظام المالي الحالي.

نظام المقايضة

المقايضة تعريفًا هي تبادل السلع أو الخدمات مقابل سلع أو خدمات أخرى، وذلك بدلًا من النقود الورقية أو العملات المعدنية والتي لم تكن موجودة في حينها. يعود تاريخ نظام المقايضة إلى عدة قرون مضت وذلك إلى ما يقارب العام 6000 قبل الميلاد وربما قبل ذلك التاريخ حتى، وقد كان له تأثير كبير على الطريقة التي يتفاعل بها البشر الأوائل في ذلك الوقت.

بالطبع، كانت هناك العديد من المشاكل التي واجهها نظام المقايضة والتي أدت في النهاية إلى طرق جديدة لتقييم السلع والخدمات، وأبرزها مايعرف بـ “الصدفة المزدوجة” فإذا كان لديك بقرة وتريد ان تبادلها بماعز، فإنه يتوجب عليك ان تجد شخصًا لديه ماعزًا ويرغب بمبادلتها ببقرة وهو ليس بالأمر السهل والمتكرر.

ومن المشاكل التي واجهها نظام المقايضة أيضًا هي “عدم قابلية القسمة” فلو كنت تظن أن بقرتك التي تملتكها تساوي 10 أزواج من الأحذية ووجدت شخصًا لديه 5 أزواج فقط، فلا يمكنك في هذه الحالة أن تعطيه نصف بقرة فقط وتحتفظ بالنصف الآخر لتجارة أخرى، إضافة إلى مشكلة تقدير القيمة أساسًا، فقد تظن أن بقرتك تساوي 10 أحذية وهي تساوي للغير 8 فقط.

العملات المعدنية

بمرور الوقت، أصبحت المعادن الثمينة أهم أشكال الدفع. وكما هو معروف فإن للمعادن مستويات مختلفة من الأهمية حيث أن لكل منها قيمته الخاصة به، ولكل من هذه المعادن قيمة جوهرية وأخرى سوقية، فالنحاس على سبيل المثال يمكن أن يتم صهره وتحويله إلى أشياء أخرى يمكن بيعها لاحقًا أو الاحتفاظ بها، إضافةً إلى استخدامه للدفع لبعض السلع أو الخدمات الأخرى.

وفي العام 600 قبل الميلاد، تم إدخال العملات المعدنية لأول مرة حيث تم صك المعادن الثمينة في حجم منتظم بقيمة محددة. تمتاز العملات المعدنية بكونها أكثر قابلية للحمل، وأسهل في التخزين وتحمل قيمتها الفعلية معها، وكذلك المعادن الثمينة التي اشتُقت منها.

“الليديون”، الذين يسكنون تركيا حاليًا كانوا أول من استخدم العملات الذهبية والفضية. تضمن العملات المعدنية -المستخدمة كأداة تداول ووحدات قياس- أن قيمة السلع مفهومة ومقبولة على نطاقٍ واسع، وأصبح من السهل مقارنة تكلفة العناصر المختلفة؛ كما تميزت هذه العملات بأنه من السهل حملها ويمكن إعادة تدويرها. وقد أدى إدخال العملات المعدنية إلى توسيع وتسريع التجارة والنمو الاقتصادي ضمن منطقة البحر المتوسط ​​وخارجه.

وكما نظام المقايضة فقد كان لاستخدام العملات المعدنية مجموعة من المشاكل، أبرز تلك المشاكل كان التلاعب بالمعادن الخاصة بالعملات إضافة إلى تقلب أسعار المعادن المصنوعة منها، بفعل عامل العرض والطلب، وهو أمر طبيعي.

مع نهاية القرن السابع عشر بدأت البنوك الوطنية تضمن أسعار الصرف، كتحديد قيمة الفضة لقيمة الذهب بشكل ثابت وهو ما مهد لظهور معيار الذهب.

النقود الورقية

خلال عهد أسرة تانغ (618-907) في الصين، بدأ التجار بترك مخزونهم من العملات المعدنية مع وكيل موثوق به، يقوم هذا الوكيل بتسجيل مقدار المال الذي كان لدى التاجر كوديعة على قطعة من الورق. بحيث يمكن بعد ذلك تداول هذه الورقة، وكانت كنوع من السندات والتي يمكن للبائع أن يذهب إلى الوكيل ويستبدلها بالعملات المعدنية. أدى ذلك إلى تبسيط كبير في التعاملات التجارية، فلم يعد التاجر بحاجة إلى حمل أكياس العملات المعدنية الثقيلة. ومع ذلك، فإن هذه السندات المنتجة من قبل القطاع الخاص لم تكن بعد عملة ورقية حقيقية وإنما مهدت الطريق لظهورها.

وخلال السنوات التالية وتحديدًا بين عامي (960 – 1279)، تم تحسين مبادئ النقود الورقية. وفي القرن الحادي عشر، أصدرت حكومة سونغ في ذلك الوقت أول نقود ورقية تنتجها حكومة في العالم. سُمي هذا المال في ذلك الوقت جياوتزي “jiaozi”.


بعد سقوط حكم سونغ بيد المغول بقيادة “كوبلا خان” في عام 1279، تم الرجوع إلى الفضة كعملة خلال عهد أسرة مينغ (1368 – 1644) ولم تطبع الصين النقود الورقية مرة أخرى حتى تسعينيات القرن التاسع عشر حين بدأت أسرة تشينغ بإنتاج اليوان.

تم تقديم فكرة النقود الورقية في أوروبا عام 1290 من قبل المسافرين مثل “ماركو بولو” الذي تحدث عنها وناقشها بشكل موسع في كتابه “رحلات ماركو بولو“. وقد منحته زياراته إلى محكمة “كوبلا خان” فهمًا لكيفية استخدام النقود الورقية في الصين في ذلك الوقت.

وكان إصدار الأوراق النقدية الأوروبية الأولى من قبل البنوك التجارية الخاصة في ستينيات القرن السادس عشر، واستمرت هذه الممارسة في أوروبا حتى القرن التاسع عشر وإلى ما بعد ذلك في أمريكا. هذه الأوراق النقدية هي شكل من أشكال الأموال التمثيلية التي يمكن تحويلها إلى ذهب أو فضة عن طريق تقديم طلب في البنك. ونظرًا لأن البنوك أصدرت أوراق تتجاوز بكثير الذهب والفضة التي تحتفظ بها في الودائع، فقد أدى ذلك إلى فقدان ثقة الجمهور المفاجئة في بعض البنوك وإلى تسريع عملية الاسترداد الجماعي للأوراق النقدية، مما أدى إلى إفلاس هذه البنوك وهذه كانت إحدى عيوب هذا النظام.

أدت هذه الممارسة بالطبع إلى انتشار الأوراق النقدية المختلفة، حيث أنه وفي وقت ما كان هناك أكثر من 5000 نوع مختلف من الأوراق النقدية الصادرة عن البنوك التجارية المختلفة في أمريكا. فقط الأوراق النقدية الصادرة عن أكبر البنوك وأكثرها جدارة بالائتمان تم قبولها على نطاق واسع.

تم استبدال استخدام الأوراق النقدية الصادرة عن البنوك التجارية الخاصة كعملة قانونية تدريجيًا بإصدار أوراق نقدية مصرح بها وتسيطر عليها الحكومات الوطنية، وفي الولايات المتحدة، مُنح البنك الاحتياطي الفيدرالي الحقوق الوحيدة لإصدار الأوراق النقدية بعد إنشائه في عام 1913. وحتى وقت قريب، كانت هذه العملات المصرح بها من قبل الحكومات حول العالم قابلة للتحويل نظريًا إلى الذهب أو الفضة. اليوم لا توجد عملات وطنية مدعومة بالذهب، وكلها تعلنها الحكومة بأنها عطاء قانوني ويتم قبولها على هذا النحو.

المعيار الذهبي والكساد العظيم

بعد أن ضرب الكساد دول العالم، كان على البلدان التخلي عن معيار الذهب. ومع انهيار سوق الأوراق المالية في عام 1929، سارع الناس إلى تحويل الدولار الذي يملكون لدى البنوك إلى الذهب كما ذكرنا سابقًا، مما أدى الى انهيار الكثير من البنوك وإغلاقها وانتشار البطالة، مما شجع الناس أكثر على الاحتفاظ بالذهب وادخاره.

استمر الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة في محاولة لجعل الدولارات أكثر قيمة وثني الناس عن استنزاف المزيد من احتياطيات الذهب الأمريكية، لكن هذا الفعل أثر على النشاط التجاري وزاد من صعوبة ممارسته، مما أدى إلى المزيد من الانهيار والإفلاس والمزيد المزيد من البطالة.

في 6 آذار/ مارس 1933، أغلق الرئيس المنتخب حديثًا “فرانكلين روزفلت” البنوك، في محاولة للحفاظ على احتياطي الذهب في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك والإبقاء عليه. ومع إعادة فتح البنوك في 13 آذار/مارس كانت المصارف قد سلمت كل ما تملكه من الذهب إلى الاحتياطي الفيدرالي، ولم يعد بإمكانهم استبدال الدولار بالذهب، ولم يعد بإمكان أحد تصدير الذهب.

في 20 نيسان/ أبريل، أمر البنك الفيدرالي الأمريكي الأمريكيين بتسليم ذهبهم مقابل الدولار لمنع ادخار الذهب، وسرعان ما امتلكت الولايات المتحدة أكبر إمدادات الذهب في العالم.

في 30 كانون الثاني/يناير 1934، حظر القانون الملكية الخاصة للذهب إلا بموجب ترخيص، وسمح للحكومة بسداد ديونها بالدولار وليس الذهب، وأذِن للبنك الفيدرالي بزيادة سعر الذهب من 20.67 دولارًا للأونصة إلى 35 دولارًا للأونصة، مما أدى إلى انخفاض قيمة الدولار.

اتفاقية بريتون -وودز حددت اتفاقية بريتون- وودز عام 1944 قيمة التبادل لجميع العملات بالذهب، فقد ألزمت الدول الأعضاء بتحويل احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى ذهب.

احتفظت الولايات المتحدة بغالبية الذهب في العالم، ونتيجة لذلك، ربطت معظم دول العالم قيمة عملتها بالدولار بدلًا من الذهب. وبهذه الطريقة حافظت البنوك المركزية على أسعار صرف ثابتة بين عملاتها والدولار، حيث أنه في حال انخفضت أسعار عملاتها تقوم بشراء عملة بلدها من أسواق الصرف الأجنبي، أما في حال ارتفاع قيمة عملاتها تقوم بطباعة المزيد من العملات وبيعها، أصبحت التجارة بالنسبة للدول أسهل مع ربطها بالدولار، ونتيجة لذلك، لم تعد معظم البلدان بحاجة إلى استبدال عملتها بالذهب، حيث استبدلتها بالدولار.

كنتيجة لذلك ارتفعت قيمة الدولار، على الرغم من أن قيمته بالنسبة الذهب بقيت كما هي. هذا جعل الدولار الأمريكي العملة العالمية الفعلية.

نهاية المعيار الذهبي

في عام 1960، كانت الولايات المتحدة تحتفظ بـ 19.4 مليار دولار من احتياطيات الذهب، بما في ذلك 1.6 مليار دولار في صندوق النقد الدولي. كان ذلك كافيًا لتغطية 18.7 مليار دولار من الدولارات الأجنبية المستحقة.

مع ازدهار الاقتصاد الأمريكي، اشترى الأمريكيون المزيد من السلع المستوردة ودفعوا بالدولار. هذا العجز الكبير في ميزان المدفوعات دفع الحكومات الأجنبية للقلق من أن الولايات المتحدة لم تعد تدعم الدولار بالذهب.

ومع تحول الاتحاد السوفييتي الى منتج كبير للنفط، تكدس الدولار الأمريكي في احتياطياته الأجنبية، وخوفًا من استيلاء الولايات المتحدة الأمريكية على ارصدة الدولار الخاصة بالاتحاد السوفييتي كجزءٍ من الحرب الباردة، قام الاتحاد السوفييتي بإيداع الدولار في المصارف الأوروبية.

بحلول السبعينيات، استمر مخزون الولايات المتحدة من الذهب بالانخفاض حيث خلقت السياسات الاقتصادية للرئيس نيكسون ركودًا. ونتيجة للتضخم في أوروبا قامت العديد من البنوك باسترداد احتياطاتها الأجنبية مقابل الذهب. لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الوفاء بهذا الالتزام المتزايد.

واصلت الولايات المتحدة السماح للحكومات الأجنبية بتبديل الدولار مقابل الذهب حتى عام 1971، عندما أنهى الرئيس ريتشارد نيكسون فجأة ذلك الأمر، وذلك لمنع الأجانب الأغنياء بالدولار من تقويض احتياطيات الذهب الأمريكية.

بمجرد إسقاط معيار الذهب، بدأت البلدان في طباعة المزيد من عملاتها الخاصة، مما أدى إلى التضخم ولكن أيضًا إلى المزيد من النمو الاقتصادي. على الرغم من وجود مؤيدين للعودة إلى المعيار الذهبي، يبدو أنه من غير المحتمل أن تعود تلك الأيام. يعتبر الاقتصاديون معيار الذهب ضروريًا خلال عصره، ولكنه لم يعد قابلًا للتطبيق في الاقتصاد العالمي الحديث.

لا يزال الذهب يتمتع بجاذبية باعتباره أحد الأصول ذات القيمة الحقيقية. عندما يلوح الركود أو التضخم في الأفق، يعود المستثمرون إلى الذهب كملاذ آمن. وقد وصل إلى أعلى مستوى قياسي له عند 1،895 دولار للأونصة في 5 سبتمبر 2011.2

كيف تحدد قيمة عملة ما وبماذا تتأثر هذه القيمة؟ إن المعيار الأساسي الذي يتم على أساسه تحديد قيمة عملة ما هو عامل العرض والطلب، حيث يتم تحديد قيمة عملة ما من خلال سعر البيع والشراء كأي سلعة أخرى. ويتأثر هذا بمقدار شعبية العملة سواء كانت كبيرة ويشتريها العديد من الناس مما يعني زيادة في قيمتها، أو كانت صغيرة حيث لايكون الطلب عليها كبيرًا وبالتالي انخفاض في قيمتها، مما يمكن تلخيصه بمقدار الطلب على هذه العملة في الأسواق العالمية والمحلية ومقدار المعروض منها.

إضافة لعامل العرض والطلب هناك عوامل أخرى تؤثر بتحديد قيمة العملات نذكر بعضًا منها:

الارتباطات

يتم ربط العملات ببعضها، مثل نسبة الدولار الأمريكي مقابل اليورو، بحيث يتم تحديد قيمة إحدى العملات مقابل الأخرى، ثم يتم فحص العوامل الأخرى ذات الصلة لتحديد القيمة الإجمالية للعملة.

الظروف الاقتصادية

يتم فحص الحالة الاقتصادية لبلد ما، مثل معدلات التوظيف وفرص النمو، عند مقارنة عملتها ببلد آخر. ثم تُعطى عملات الدول المزدهرة قيمة أعلى من عملة الدول المتعثرة اقتصاديًا.

الظروف السياسية

تتأثر قيمة العملات بالظروف السياسية الخاصة ببلد ما، التحالفات والعداءات كلها تلعب دورًا في تحديد قيمة العملات إيجابًا وسلبًا إضافة للحروب وتأثيرها على الظروف الاقتصادية عمومًا والقوة الشرائية للعملات خصوصًا.

لماذا لا نطبع النقود ونصبح جميعًا أغنياء؟

تحصل العملات على قيمتها من قدرتها على شراء السلع، ستؤدي طباعة المزيد من الأموال إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات، مما يعني ارتفاع في أسعار هذه السلع والخدمات وارتفاع في التكاليف الأولية للإنتاج كنتيجة لزيادة الطلب عليها، وبالتالي إن طباعه الأموال ونشرها لن يؤدي إلا إلى ما يُعرف بالتضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملات، بدلًا من أن تصب في تحسين الوضع المعيشي، وبالتالي لتحسين الوضع المادي للشعوب لا بد من العمل على تحسين القوة الشرائية للعملة وتحسين قيمة العملة في الأسواق العالمية والعمل على تحقيق الازدهار الاقتصادي وليس طباعه الأوراق وتوزيعها على الناس.